بعدما
تعرضنـا للسياق التاريخي الذي تضافرت عوامله مؤدية إلى المفهوم الجديد: العولمـة
الإقتصاديـة, سنحاول في هذا الفصل دراسة الظاهرة عن قرب بدراسة مفهومها و التعرض
لمظاهرها و كذا خصائصها, مع التركيز على العولمة المالية (أي البعد المالي للعولمة
الإقتصادية).
-1-II مفهوم و مظاهر العولمة الاقتصادية:
-1-1-II تعريف العولمة:
"العولمـة
هي انفتاح عن العالم, و هـي حركة متدفقة ثقافيا و اقتصاديا و سياسيا و تكنولوجياً,
حيث يتعامل مدير اليوم مع عالم تتلاشى فيه تأثير الحدود الجغرافية و السياسية,
فأمامنا رأس مال يتحرك بغير قيود و ينتقلون بغير حدود, و معلومات تتدفق بغير عوائق
حتى تفيض أحيانا عن طاقة استيعاب المديرين. فهذه ثقافات تداخلت و أسواق تقاربت و
اندمجت, و هذه دول تكتلت فأزالت حدودها الإقتصادية و الجغرافية, و شركـات تحالفت
فتبادلت الأسواق و المعلومات و الاستثمارات عبر الحدود, و هـذه منظمات مؤثرة
عالمياً مثل: البنك الدولي, صندوق النقد الدولي, ووكالات متخصصة للأمم المتحدة تؤثر
بدرجة أو بأخرى في اقتصاديات و عملات الدول و مستـوى و ظروف معيشة الناس عبر
العالم".
-2-1-II مظاهر العولمة:
-1 تحـول مفاهيم الاقتصاد و رأس المال:
و
قد اقترنت العولمة بظواهر متعددة استجدت على الساحة العالمية, أو ربما كانت موجودة
من قبل, و لكن زادت من درجة ظهورها, و هذه الظواهر قد تكون اقتصادية أو سياسية أو
ثقافية أو اتصالية أو غيـرها, و لاشك أنّ أبرز هذه الظواهـر الإقتصادية التي أهمهـا:
-
تحول
الإقتصاد من الحالة العينية (الأنشطة التقليدية كتبادل السلع عينياً بالبيع و
الشراء) إلـى الإقتصاد الرمزي الذي يستخدم الرموز و النبضات الإلكترونية من خلال
الحواسب الإلكترونية و الأجهزة الإتصاليـة, و ما ينتج عن ذلك من زيادة حجم التجارة
الإلكترونية و التبادل الإلكتروني للبيانات في قطاع التجارة و النقل و المال و
الإئتمان و غيرها.
-
تحول
رأس المال من وظائفه التقليدية كمخزن للقيمة و وسيط للتبادل, إلى سلعة تباع و
تشترى في الأسواق (تجارة النقود)؛ حيث يدور في أسواق العالم ما يزيد عن 100 تريليون دولار (100 ألف
مليار) يضمها ما يقرب 800 صندوق استثمار, و
يتم التعامل يومياً في ما يقرب من 1500 مليار $, أي أكثر
من مرتين و نصف قدر الناتج القومي العربي, دون رابط أو ضـابط, و هو ما أدى إلى
زيادة درجة الاضطراب و الفوضى في الأسواق المالية, و أعطى لرأس المال قوة لرفض شروطه
على الدول للحصول على أقصى ما يـمكن من امتيازات له. و قد أدى هذا كله إلى زيادة
التضخم نتيجة لزيادة قيمة النقـود.
-
تعمق
الإعتماد المتبادل بين الدول و الاقتصاديات القومية, و تعمق المبادلات التجارية من
خلال سرعة و سهولة تحرك السلع و رؤوس الأموال و المعلومات عبر الحدود مع النزعة
إلى توحيد الأسواق المالية, خاصة مع إزالة كثير من الحواجز الجمركية و العقبات
التي تعترض هذا الانسياب بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية, التي بدأت نشاطها في
بداية عام 1995م,
و هو ما يشاهد الآن بعد توحد بورصة لندن و فرانكفورت اللتين تتعاملان في حوالي 4 آلاف مليار $, كذلك توحد بورصات أوروبية أخرى, و هناك اتجاه
متزايد نحو إنشاء سوق مالية عالمية موحدة تضم معظم أو جميع البورصات العالمية, و
تعمل لمدة 24ساعة
ليمكن المتاجرة في أسهم الشركات الدولية من أي مكان في العالم.
و قد ترتب عن إزالة الحواجز و العوائق
بين الأسواق أن أصبحت المنافسة هي العامل الأقوى في تحديد نوع السلع التي تنتجها
الدولة, و بالتالي فإن كثيراً من الدول قد تخلت عن إنتاج و تصدير بعض سلعها؛ لعدم
قدرتها على المنافسة مثل صناعة النسيج في مصر التي انهارت أمام منافسة دول جنوب
شرق آسيا, و أصبحت تلك الدول تحصل على حاجتها من دول أخرى لها ميزة تنافسية في
إنتاج تلك السلع, و هو ما ينطبق أيضا على رؤوس الأموال التي أصبحت مركزة في بعض
الدول المنتجة و المصدرة للبترول, و على الدول التي تحتاج إلى تلك الأموال أن تحصل
عليها من الدول المتقدمة.
-2 دور أكبـر المنظمات العالمية:
-
زيادة
الإنفتاح و التحرر في الأسواق و اعتمادها على آليات العرض و الطلب من خلال تطبيق
سياسات الإصلاح و التكييف الإقتصادي و الخصخصة, و إعادة هيكلة الكثير من
الاقتصاديات الموجهة و اقتصاديات الدول النامية مع متطلبات العولمة (مثلما حدث في
مصر, و يحدث الآن في دول الخليج فضلاً عن باقي دول العالم).
-
زيادة
دور و أهمية المنظمات العالمية في إدارة و توجيه الأنشطة العالمية، كصندوق النقد
الدولي و البنك الدولي للإنشاء و التعمير, و منظمة العالمية للتجارة, و اليونسكو,
و منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة و غيرها.
-
التوجه
نحو تشكيل العديد من التكتلات الإقليمية الإقتصادية و السياسية و الثقافية مثل
تكتل الأسيـان و الإتحاد الأوروبي و غيرها, و الزيادة الملحوظة في أعداد المنظمات
غير الحكومية بعد أن بدأ دور الدولة في إدارة الإقتصاد في التناقض.
-3 تفاقم المديونية و تزايد الشركات المتعددة الجنيات:
-
استشراء
ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات, مع سيطرتها على الإستثمار و الإنتاج و التجارة
الدولية و الخبرة التكنولوجية مثل شركة IBM, و مايكروسوفت و غيرها, خاصة بعد أن ساوت منظمة التجارة العالمية
بين هذه الشركات و الشركات الوطنية في المعاملة.
-
تفاقم
مشاكل المديونية العالمية و خاصة ديون العالم الثالث, و الدول الفقيرة مع عدم
قدرتها على السداد, و ما تزامن مع ذلك مع زيادة حجم التحويلات العكسية من الدول
الفقيرة إلى الدول المتقدمة, و المتمثلة في خدمة الديون و أرباح الشركات المتعددة
الجنسيات و تكاليف نقل التكنولوجيا و أجور العمالة و الخبرات الأجنبية, و الذي
قابله في نفس الوقت تقلص حجم المعونات و المساعدات و المنح الواردة من الدول
المتقدمة إلى الدول النامية و عدم جدواها.
-
ظهور
تقسيم دولي جديد للعمل تتخلى فيه الدول المتقدمة للدول النامية عن بعض الصناعات
التحويلية (هي الصناعات التي تعتمد على تحويل المادة الخام إلى سلع مصنعة يمكن
الاستفادة منها, كصناعات الصلب, و البيروكيماويات, و التسليح و غيرها) التي لا
تحقق ميزة نسبية, مثل الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة و كثيفة العمل و الملوثة
للبيئة, و ذات هامش الربح المنخفض, مثل صناعات الصلب و البتر وكيماويات و التسليح,
بينما ركزت الدول المتقدمة على الصناعات عالية التقنية كصناعة الحاسبات و البرامج
و أجهزة الاتصالات و الصناعات الالكترونية, ذات الربحية العالية و العمالة الأقل.
-4 تبديد الفوائض بدلا من تعبئتها:
-
تغير
شكل و طبيعة التنمية, فبعد أن كانت التنمية تعتمد أساساً على تعبئة الفوائض و
التمويل الذاتي (الادخار), تحولت إلى تنمية تعتمد على الاستثمارات الخارجية و
الشركات المتعددة الجنسيات, و أصبحت التنمية هي تنمية الفوائض و المدخرات
(الاستهلاك) كناتج أساليب الاستهلاك الترفيهي المتزايدة, تحت ضغط الآلة الإعلانية
الجبارة, التي أدت إلى عجز مزمن في موازين المدفوعات و تفاقم أزمة الديون في
العالم الثالث, و تركيز التنمية على الجانب الإقتصادي فقط أي تحولها إلى تنمية
وحيدة الاتجاه تهمل الاتجاه الإجتماعي و الثقافي,مع اعتماد نظام السوق ليكون أساسا
للتنمية في مختلف بلاد العالم. حتى الطبقات عالية الدخل في الدول النامية التي من
المفترض أن تكون نسبة ميلها (نسبة الإنفاق على الإستهلاك من الدخل الكلي) قليلة و
أصبحت تلك الفئات المسرفة التي تبدد دخولها على الاستهلاك الترفيهي, و بالتالي فإن
ميلها الإستهلاكي أصبح مرتفعاً, و قد ساعد على ذلك قدرة الاقتصاديات المتقدمة على
إنتاج سلع جديدة و التنوع في السلع القديمة مثل ابتكار طرازات جديدة من السيارات و
السلع المعمرة و غيرها.
-
تراجع
نصيب المادة الأولية في الوحدة من المنتج في العصر الحديث بسبب تطور الإنتاج, و هو
ما يسمى بالتحلل من المادة, و إحلال الطاقة الذهنية و العملية (الفكر), محل جزء من
المادة الأولية, مما أدى إلى تراجع الأهمية النسبية للنشاط الصناعي في الهيكل
الإنتاجي في الدول المتقدمة الصناعية و تصاعد الأهمية النسبية لقطاع الخدمات, و قد
زادت الأهمية النسبية لنشاط الخدمات داخل النشاط الصناعي ذاته بحيث أصبحت تمثل
أكثر من %60 من الناتج الصناعي, لتنامي الصناعات عالية التقنية, و ظهور مجموعة
جديدة من السلع غير الملموسة كالأفكار و التصميمات و المشتقات المالية استقطبت
المهارات العالية, و ما ترتب عن ذلك من زيادة عملية التفاوت في الأجور, و بالتالي
توزيع الدخل القومي توزيعا غير عادل, سواءا على مستوى أفراد الدولة الواحدة أو بين
الدول.
-5 زيادة الفوارق بين الطبقات و البطالة:
- تعمق الثنائية الإجتماعية في مجتمعات
العالم الثالث, فبعد أن كانت الفوارق مادية, أصبحت هذه الفوارق مادية و تكنولوجية
بسبب استحواذ الطبقات مرتفعة الدخل على الإنجازات التكنولوجية عالية القيمة التي
يصعب على الفقراء اقتناؤها, كالإنترنت و التليفون المحمول و الحاسبات الإلكترونية
و غيرها..., و يؤدي هذا في المستقبل إلى زيادة و ترسيخ التخلف في الطبقات الفقيرة
و صعوبة تقليل الفوارق بين الطبقات العالية الدخل و الفقيرة في المجتمع مما بهدد
الاستقرار الاجتماعي.
- زيادة و انتشار البطالة في المجتمعات
و خاصة في الدول النامية بسبب الاتجاه إلى استخدام الأساليب كثيفة رأس المال, التي
تعتمد على استخدام عدد أقل من القوى العاملة, و ذلك بسبب الحاجة إلى تخفيض تكاليف
و زيادة مستوى الجودة, فلا مكان للمنافسة في السوق العالمية الموحدة بعد إنشاء
منظمة التجارة العالمية.
- إحلال مفاهيم جديدة محل القديمة
كسيادة مفهوم الميزة التنافسية, و حلوله محل الميزة النسبية, بعد توحد الأسواق
الدولية و سقوط الحواجز بينها, و كذلك سقوط مفهوم التساقط الذي تبناه البنك الدولي
و صندوق النقد الدولي لمدة طويلة, حيث إن الطبقات العالية الدخل في الدول النامية
هي طبقات مسرفة لا تدخر و لا تستثمر و تبدد فوائضها في مصارف استهلاكية لا يستفيد
منها الجميع, و هو ما أدى إلى تناقض معدلات النمو في هذه الدول بسبب الاستثمارات و
زيادة عجز الموازين التجارية و موازين المدفوعات.
و تعني الميزة التنافسية للدولة قدرتها
على إنتاج سلع و تصديرها لتنافس في الأسواق العالمية دون أن تتوفر لها المزايا
التي تساعدها على إنتاج هذه السلع مثل الظروف الطبيعية و المناخية و المواد
الأولية, وذلك نتيجة تفوقها التكنولوجي, حيث يمكن لها استيراد المواد الأولية من
الخارج و تصنيعها بدرجة عالية من الجودة و بتكلفة أقل لتنافس في السوق العالمي
مثلما يحدث في اليابان, و سنغافورة و دول جنوب شرق آسيا, و قد ساعد على ذلك تناقص
قيمة المادة في السلع و زيادة القيمة الفكرية و الذهنية نتيجة استخدام الحاسب و
أجهزة الاتصالات.
أمـا الميـزة النسبيـة, فهي تعني توفر
مزايا للدولة تساعدها على إنتاج سلع معينة كالظروف الطبيعية و المناخية و المواد
الأولية أو القوى العاملة الرخيصة, إلا أن هذه المزايا قد لا تساعدها على المنافسة
في الأسواق العالمية؛ ربما لانخفاض الجودة أو لارتفاع التكلفة بسبب غياب
التكنولوجيا.
-
اتجاه
منظمات الأعمال و الشركات إلى الإندماج؛ لتكوين كيانات إنتاجية و تصنيعية هائلة,
الغرض منها توفير العمالة و تقليل تكاليف الإنتاج و الحصول على مزايا جديدة كفتح
أسواق جديدة أو التوسع في الأسواق الحالية, و هو ما نشاهده الآن من اندماجات
الشركات الكبرى مع بعضها, حيث دخلنا فيما يسمى بعصر "الديناصـورات
الإنتاجيـة" الهائلة و الأمثلة على ذلك كثيرة في مجالات البترول و
التكنولوجيا و المعلومات والمصارف, و ينتج عن ذلك بالتأكيد تطوير كبير في علم
الإدارة و الرقابة و السيطرة للتوصل إلى مهارات إدارية و تنظيمية و صيغ جديدة من
الأشكال التنظيمية التي تناسب هذه الكيانات الكبيرة.